الشاعر عبد السادة البصري :
- بعد رحلة امتدت لاكثر من ربع قرن مع الكتابة والنشر صرت اخاف من القصيدة..
- للقصيدة البصرية ملامح تميزها عن غيرها..
- القول الفصل والاخير للشعراء لانهم اصحاب رسالة انسانية..
حاوره: علي عطوان الكعبي
شاعر لقصائده رائحة الحناء ، وامتداد الشط وبياض النوارس، نابضة في محياه كملامح مدينته الفاو، التي لم تزل ملامحها تلك، وشما ظاهرا فيه ، منذ ان نشأ بين جنبات طرقاتها متلمسا ترابها المعجون بالملح والحناء ، تلك المدينة التى عانت معه رحلة المكان الى المكان ، بسبب الحرب ، فحملها هاجسا مختزنا في الذاكرة والذات ،لتفيض على يديه منسكبة بجمال البصرة ،قصائد سمراء لها لون وجهه . وهو شاعر رغم امتلاكه للمئات من البيوت في الشعر، مازال يبحث عن بيت مأوى يلمه في الحياة ،حيث يعيش وأطفاله الخمسة الآن ،في قاعة تابعة لنادي الميناء الرياضي..كتب الشعر مبكرا،منذ اوائل السبعينات وتحديدا عام 1972، بدأ النشر في دولة الكويت عام 1979
،اصدر مع مجموعة من شعراء البصرة مجاميع مشتركة بطريقة ( ادب الاستنساخ ) للاعوام منذ عام 1991 تحت عنوان " فضاءات "
أصدر مجموعته الشعرية الاولى في عمّان عام 1998 عن دار ازمنة تحت عنوان " لا شيء لنا "
وأصدر مجموعته الثانية في البصرة عام 2000 تحت عنوان " تضاريس " .كما لديه مجموعة شعرية تحت الطبع بعنوان " اصفى من البياض " . وهو من مواليد البصرة عام 1961. ،عن همه الانساني والشعري ،كان معه هذا الحوار:
** بعد أن تلمس قلق الشعر وهاجسه ،في هذه الرحلة الشعرية ..أين يقف الشاعر عبد السادة البصري ،الآن ..؟
مهما تكن الرحلة الشعرية طويلة او قصيرة يبقى الشاعر فيها مجربّا وكانه يبدا اول مرة واول خطوة . لان هاجس الشعر وقلقه يتنامى يوما بعد اخر ، القلق يزداد والهاجس يكبر وانت على مفترق طرق ماذا تصنع ؟!
اقف الان منبهرا بكل ما كتب قبلي ومعي ، اقف حيث يقف الثمانينيون الذين اكلت احلامهم الحروب التي لا معنى لها والاعتقالات والتشريد والموت المجاني في كل مكان .. اقف مصعوقا مما يجري الان على هذه الارض من قتل وتدمير وخراب .. ولهذا اظل مجربا ومجربا مهما وقفت في محطات شتى لانني وكما قال المتنبي العظيم :
على قلق كأن الريح تحتي
ومع ذلك اترك للاخرين الاجابة اين اقف الان . لانني اعتبر نفسي ولحد هذه اللحظة على اول درجات السلم ، وهاأنذا ارفع قدمي لاضعها على الثانية ..
** اذا كان لابد للشاعر من طقوس يؤديها عند لحظة التحليق مع القصيدة ،فعلى أية حال تكون أنت معها في تلك اللحظة ..؟
- القصيدة تتملكني ، تجعلني هائما لا ادري ماذا اصنع ، هاجس غريب ينتابني فأظل ادور .. القصيدة يا عزيزي تعيش معي واشعر بسطوة كبيرة علي ّ حينها .. تبدا قدحة الشعر ( القصيدة ) من مفردة ما ، او مشهد اراه او رواية اقرأها او حكاية اسمعها حيث اظل اسير تلك القدحة لن ابارحها ابدا حتى تكتمل القصيدة ولهذا تجدني لا اعرف وقتا للكتابة .. القصيدة حينما تأتي هي التي تكتبني .. افرغها على الورق وامضي لايام ثم اعود اليها قارئا وناقدا اعيد قراءتها مرة واخرى حيث يبدا التشذيب والشطب والاضافة وما الى ذلك .. والحقيقة اقولها لك الان وبعد رحلة امتدت لاكثر من ربع قرن مع الكتابة والنشر صرت اخاف من القصيدة . اتهيبها كثيرا ، وبعد افراغها على الورقة اظل قلقا حيالها ، انا الان صرت اخاف النشر كثيرا خلافا لما كنت عليه سابقا حيث انشر وانشر وانشر الان تجدني مقلا جدا بذلك والسبب الخوف من القصيدة وعليها ..
** هل تعتقد إن للقصيدة البصرية ملامح تميزها عن غيرها في خريطة الشعر العراقي..؟
- البصريون يا صديقي مبدعون بكل شيء ، والبصرة ارض خصب للنماء وام ولود معطاء حيث تجد اغلب التجارب والابتكارات والتجديد تخرج منها لنعد قليلا الى التاريخ الفرق الاسلامية اغلبها خرجت منها المعتزلة ، اخوان الصفا ، المرجئة وغيرهم .. اوزان الشعر والمقامات وكتب التاريخ والنثر وما الى ذلك خرجت منها كم من الصفات والاسماء والتجارب الجديدة التي اسست واضافت لتاريخ الابداع ابداعا اكبر واكبر قد خرجت منها .. اليس كذلك ؟!
حتما ان للقصيدة البصرية ملامح تميزها عن غيرها ، البحر ، الشط ، السفن البحارة وما شابه ذلك من المفردات التي تختزنها ذاكرة الشاعر البصري وتجاربه الحياتية القريبة من الموانئ والدول المجاورة الاخرى تعطيه تميزا اكبر ، قصيدة النثر اين ابتدأت منذ خمسينات وستينات القرن الماضي وكذلك القصيدة السيابية ( التفعيلة او الشعر الحر )من اين انطلقت اول مرة ، البصريون يمتلكون هاجس الغربة والحنين التي تجده من قصائدهم . ولهذا حينما تقرا اي قصيدة لشاعر بصري تجدها مختلفة كليا عن اي شاعر اخر من محافظة اخرى من عراقنا الحبيب .. وفي النهاية القصيدة تبقى عراقية حتى وان تميزت احداها عن الاخرى .
** في مجموعتك الشعرية تضاريس..نجد تكرارا لفظيا في بعض القصائد القطارات الشوارع..ألايام ..،لماذا يلجأ الشاعر الى هذا التكرار اللفظي برايك؟؟
- هذه تجربة ، اردت ان اخوضها في بعض قصائدي لأرى وقعها على المتلقي وقد ابتدأتها بقصيدتي " مناضد ، وحقائب " في مجموعتي الاولى " لا شيء لنا " التي صدرت في عمّان و في تضاريس نشرت القصائد الاخرى ، واردت بهذا ان اعطي للكلمة اكثر من معنى في حياتنا وهذا ما نعيشه جميعا ، لانها مفردات تحيا معنا في كل لحظة اي تشاركنا الحياة وبكل دقائقها فلماذا لا نصنع منها اشياء نظل نرددها دائما .. سالني احد القراء ذات يوم بعد صدور مجموعة تضاريس : ماذا اضفت لهذه الكلمات ، انها موجودة امام اعين الجميع ؟ فاجبته : وهل الجميع اشاروا اليها مثلما اشرت انا ؟ قال : لا .. فقلت له : اذن هذا ما اضفته انا لهذه الكلمات !!
وقد كتب بهذه قبلي كثيرون من الشعراء منهم الشاعر " عبد الكريم كاصد " في منجموعته " الحقائب " حيث اعاد تكرار مفردة " غرف " وكذلك الشاعر " فاضل العزاوي " وغيرهم . وهي تجربة اردت ان اخوضها ليس الا .
** كثيرا ماوردت مفردتا البحر والنوارس في قصائد المجموعة .. حتى لتشعر انها شكلت معادلا موضوعيا لمفردتي الحرب والحزن.. هل كان ذلك بقصدية معينة ام هو بوح اللاوعي الشعري..؟
- ولدت وترعرعت في مدينة الفاو الساحلية على الخليج العربي .. اي طفولتي وصباي وشبابي قضيتها في الفاو .. الفاو مدينة البحر والحنّاء والملح وهذا شيء مؤكد ان الذاكرة ستخزن كل ما يتعلق بالبحر وتوابعه من سفن ، بحّارة ، نوارس ، وما الى ذلك من طبيعة .. ولانني تركت الفاو مرغما بسبب الحرب عام 1980 فانها ظلت تسكنني دائما انها معي حتى في الاحلام .. وتراني حزين لانني اشعر بالغربة .. بعيدا عن مسقط راسي وملاعب طفولتي وصباي التي مسحت من خارطة الكون بيتنا ، قريتنا ، النخيل ، الاعناب ، وكل مظاهر الحياة وصارت ذكرى فقط ولهذا فانها في بعض القصائد جاءت بقصدية تامة وفي اخرى بوح الوعي الشعري كونها خزين الذاكرة الذاتي الذي لن يفارقني ابدا ويبقى يعتصرني الحنين اليه دائما .
** الا تجد انه من المفارقة ،ان الشاعر وهو الذي يمتلك المئات من البيوت الشعرية ،لايجد المأوى..؟ هل هو قدر المبدع ان يعيش هذا القلق الحياتي، لينعكس قلقا ابداعيا في الذات..؟
- هذا سؤال يحيرني دائما ً ، يعيش معي ، بل يسكنني ، كلما نظرت الى اوراقي المبعثرة في زاوية من زوايا قاعة سقفها من ( الجينكو ) لا يمكن ابدا ً ان يقيني المطر في الشتاء ، ولا لهب الصيف ، حيث يبدا الماء بالتقاطر شيئا فشيئا ساعة المطر ، وتصعد الحرارة كأنك في اتون بركان ساعة القيظ . وكلما نظرت ايضا ً الى اطفالي وهم بلا مأوى كل هذه السنين يا حبيبي اعاني الغربة داخل وطني منذ اكثر من ثمان وعشرين سنة وما زلت ولا ادري متى تنتهي غربتي " عذبتني غربتي اماه في هذا الوطن " هذه جملة من قصيدة قد كتبتها عام 1986 ، وما زلت ارددها ، بل كتبت مثلها الكثير ، واتساءل مثلك هل هو قدرنا نحن المبدعين ان نعيش قلقا ً حياتيا ً اخرا ً يوازي قلقنا الابداعي ويظل صدى هذا التساؤل يرن في مخيلتي بانتظار الجواب من السادة المسؤولين ، اتمنى ان ينتبهوا لنا مرة وللحظات، ويوفروا لنا بعضا من متطلبات المأوى ، وعسى ان لا يكون انتظارنا طويلا ً لان قلقنا اطول بكثير .
** هناك من يقول إن الشعر لم يعد يتسع للواقع، أين يقف عبد السادة البصري من هذا القول ..وهل تعتقد إن القول الأخير سيكون للشعراء؟
- قد يكون هذا القول صحيحا نوعا ما لكون الواقع الان صار اكبر من الخيال واغرب بما يحدث فيه من دمار وخراب وقتل وغيرها .. والشاعر ذلك الحالم بعالم مثالي او يوتوبيا لا يمكن ان تحقق الا في الافلام السينمائية .. يا صديقي كيف ترسم واقعا ملئيا بالدم والاذى والدمار وانت تحمل قلبا ينز طيبة ومحبة وعقلا يدعو للسلام والامان .. الشعر اما ان يكون اكبر من الواقع وهذا محض خيال او يتغير الواقع طلبا لمقتضيات الشعراء وهذا لا يمكن .. اذن من الذي يتسكع للاخر ؟! ولابد ان يكون القول الفصل والاخير للشعراء لانهم اصحاب رسالة انسانية تسمو بالمثل العليا على الارض .
** بعد هذا التغيير الكبير الذي احدث انقلابا شاملا في بنية المجتمع العراقي ،كيف تقرا انعكاسات ذلك التغيير على الواقع الثقافي العراقي ..؟
- بالرغم من بعض الانفتاح الذي اخذ بايدي المبدعين صوب مرافئ كثيرة هنا وهناك من فضائيات وصحف ومجلات ، وعدم رقابة فكرية على ما يكتبون ، الا ان الواقع الثقافي العراقي لا زال في جو ضبابي لا يعرف اين يضع قدمه ، الازمات والاوضاع غير المستقرة ، ونزيف الدم ، تضيف اطنانا ً من القلق على كاهل المبدعين وتأخذهم هواجس شتى هنا وهناك ، ومع كل شيء ورغم هذا وذاك ، يظل المثقف العراقي متطلعا الى انجازات ابداعية في مجالات البناء والاعمار توازي انجازاته الابداعية في مجال الثقافة ، وخير دليل على صحة وعافية الواقع الثقافي ما يحصده مبدعونا من جوائز في شتى مجالات الابداع في كل مكان الا يعطي هذا دليلا على بعض انعكاسات ذلك التغيير .
** ماذا تعني لك هذه الكلمات: طفولة ، شعر ، نقد ، جمال ، طبيعة ، بحر ، البصرة ، الشاعر عبد السادة البصري ؟
الطفولة : انها حياتي التي اتمناها دائما لانها البراءة والوداعة والاحلام الوردية
الشعر : رسالتي الانسانية التي احملها على كاهلي والفضاء الاثيري الذي احلق فيه .
النقد : نحن الشعراء نحتاج الى نقد حقيقي يؤشر الخلل في كل ما نكتبه وكذلك يبرز الغث من السمين .. النقد يجب ان يكون ابداعا اخرا موازيا لابداع الشعراء والقصاصين والرواة . خلق نص جديد .
جمال : نور الله على الارض والذي لا يهوى الجمال فانه بعيد كل البعد عن هذا النور .
طبيعة : حياتي التي اسرح فيها ومعها كلما اردت ان احلق في سماوات العالم .
بحر : ذلك الغموض والخوف الذي يسكن البحارة ساعة هيجانه وهدوئه وانه الصفاء وراحة النفس عند الاسترخاء والمفردةة التي تلازمني دائما .
البصرة : امي الثانية التي لم استطع مفارقتها ابدا ، انها تسكنني بكل ما فيها من الم وابداع .
الشاعر عبد السادة البصري : انسان مهووس بالطيبة وحب الاخرين والسلام ومرتبك بالضياع امام انعدام المأوى الحقيقي للمبدع .
** لو أردت أن تقيم المشهد الثقافي في البصرة فماذا تقول؟
- مكتظ بالمبدعين ، ومشحون بالقلق ، هناك شعراء مجربون في كل لحظة همهم الابداع والتجريب والخلق الجديد واخرون اكتفوا بما هم فيه واخرون راحوا يتفرجون على هؤلاء وهؤلاء وهناك قصاصون ورواة اخذت كتاباتهم اماكنها في المسابقات المحلية والدولية ولهم مستقبل واعد .. واخرون رفعوا راية القصة والشعر والمسرح
المشهد الثقافي في البصرة مثله في بغداد لا يقل ابداعا عن مبدعي العاصمة وبعض مبدعي العراق الاخرين ، انه يرسم صورة مشرقة للابداع العراقي رغم كل شيء !!