القاص محمد خضير يتحدث للزمان بعد نيله جائزة العويس: فاصل بين ثقافة الماقبل والمابعد والجميع يتجاهل ثقافة الانهيار - الزمان
ارتبط اسم محمد خضير بفن القصة القصيرة ارتباط النخلة بارض البصرة التي صارت رمزا ومعلما لها،والنخلة لا تسافر بل تضرب عميقا في التربة وتشهق بقامتها صعدا نحو الأعالي.
وبظلالها الوارفة وبتيجان من خوص نخيلها توجت البصرة نخبة من مبدعيها سواء في الشعر أو القصة ورفعتهم إلي هذا المجد وهذا العلو، وبين آونة وأخري تشرئب فسيلة وتمتد وتطول وتنتهي إلي نخلة مباركة باسقة، وكل برعم يتفتح عن وردة.
لم يسع محمد خضير إلي شهرة شخصية استعراضية بل اعتكف ساهرا مثابرا علي ابداعه ومنجزه بصبر وجهد ومثابرة ولم يلتفت إلي غير ذلك وبقوة العارضة والخيال وبلغة متماسكة ذات بلاغة وانشاء مكينين كتب معظم قصصه وصنع اسلوبه المتفرد ومضي باحثا منقبا في ثنايا الواقع وتضاعيفه الذي تمثلته ذاكرته العامرة بالرؤي والتخيلات ووعت دروسه استشرافا للمستقبل من احداث ووقائع وبني اجتماعية ومراكز دافعة وأناس فضلا عن اغترافه من الميثولوجيا العراقية ما مكنه من ان يقيم (مملكته السوداء) أو يرسم صورة لمدينته البصرة أو يشيد يوتوبيا للمكان الواقعي والمتخيل في (بصرياثا) والطين العراقي يصنع الامثولات والاعاجيب. وفي النزل والخانات، في المحطات والبراري في الاماكن المعزولة والمنعزلة في الأسواق، وفي دكاكين الوراقين نراه يطل علينا بعيون صبي من صبيان معلمه (الجاحظ) أو بعيون رحالة يجوب الأمصار والمدن أو قد نصادفه (ملا) بعصا وخريطة علي احد الطرق،ظاهر المدينة أو متشردا في رواية (بيكارسيكية) أو مع ابي زيد السروجي وأبي الفتح وهما يدبران مقلبا أو يرتبان حيلة وينجوان من حيلة في مقامة من مقامات البديع الهمذاني أو الحريري. فثمة صدي لالف ليلة وليلة باجوائها السحرية وحكاياتها العجيبة وشذا نسيمها الشرقي. لقد انشغل محمد خضير مدة بالتنظير للقصة القصيرةفي كتابه (الحكاية الجديدة)الذي صدر متزامنا مع مجموعته القصصية الثالثة بعد المملكة السوداء، وفي درجة 45 مئوي:
(رؤيا خريف) كاشفا عن خبرته واسرار صنعته. وقد تقلد محمد خضير مؤخراً بقلادة تحمل معني الحجر الكريم ودلالته من خلال فوزه بجائزة العويس في دورتها الثامنة ــ2003.
التقينا بالقاص محمد خضير وكان لنا معه الحوار التالي:
û بمناسبة فوزك بجائزة سلطان العويس للقصة والرواية ــ في دورتها الاخيرة 3003 ـــ كيف تلقيت النبأ وما يعني ذلك بالنسبة لابداعك؟
ــ تلقيت نبأ حصولي علي جائزة سلطان العويس الادبية بسرور بالغ، واقدر هذا الصنيع تقديرا عاليا، خاصة وانه جاء من مؤسسة مستقلة تتمتع باحترام الأوساط الأدبية العربية لطالما فكرت في هذه الجائزة باعتبارها صلة الوصل بعالم يشهر نصوص الكاتب ويدفعها إلي التداول غير المحدود فما يتبع الجائزة لهفة التحري عن نصوص الكاتب واطلاقها في فضاء عالمي. وما يعطي جائزة سلطان العويس قيمتها التداولية وقوعها في موسم الجوائز العالمية.اضف إلي ذلك انني سالتحق بكوكبة الفائزين السابقين من الادباء العرب المرموقين بهذه الجائزة. وبعد هذا كله يخالجني شعور صادق بان الفائز الحقيقي بالجائزة هم اولئك الادباء الذين اخطأتهم الجائزة.ما اقربهم مني بأسمائهم التي اعرفها جيدا واعمالهم التي قرأتها من قريب أو بعيد.
أفكر برهين المحبسين
û هل ستطلق الجائزة سراحك، بعد ان اطلقت سراح نصوصك إلي العالمية؟
ــ أفكر بأبي العلاء المعري، رهين المحبسين..ربما ستكون الجائزة محبسي الثاني بعد محبس البيت في البصرة..ترتب الجائزة ديونا جديدة ولا سبيل للسفر أو الهجرة هربا من ديونها.كتب ابو العلاء (رسالة الغفران) ليهرب من محبسيه، لكنه بعد ان طاف في اقطار السماء عاد إلي محبسه الارضي.الهجرة تضيف ديونا اخري يصعب سدادها.خذ جبران خليل جبران مثالا اخر علي المهاجر الذي عاد جثمانه ليدفن في كهف كنيسة في بلدته الجبلية (بشري) ترك ادباء عراقيون مدنهم الصغيرة وسكنوا العاصمة بغداد، أو هاجروا إلي خارج البلاد، وهم محقون بما انهم شعروا بفساد المناخ في ديارهم.لماذا اترك البصرة؟. ليست البصرة مدينة صغيرة، وانا قريب من نصوص البلاغيين والنحويين المدفونين في مقبرة الحسن البصري.هذا المحبس وهبني الفن الذي احسن صناعته، فن القصة القصيرة، ويحتاج إلي قدر كبير من التأمل والسكون.استطيع ان اقارن بين عمل القاص ومهنة الحرفي اليدوي الذي تطبع بطباع الزهد والقناعة والاعتكاف علي صفات ومزايا يتطلبها فنه.كان الشاعر ابو العتاهية فخارا.لا تحتاج نصوص القاص إلي اكثر من هامش صغير تخرج اليه بعد احتجابها في محبسه.ثم تأتي الجائزة لتطلقها إلي عالم الاخرين.النصوص تهاجر فيما ينشغل القاص بهامش محبسه.
û إذا كانت معظم قصصك تدور في فضاء مكاني واحد هو (البصرة) لماذا عمدت في (بصرياثا) علي اسطرة واقعها الحاضر وارثها الماضي؟
ــ (بصرياثا) كتاب عن مدينة حقيقية لا عن اسطورة.كتاب من طراز كتب لورنس داريل وهنري ميلر عن مدن اليونان، أو كامو عن الجزائر، أو كلود اوليه عن الجزائر، أو محمد شكري عن طنجة.لذا فهو لا يلتقي ابدا مع كتاب (مدن لا مرئية) لكالفينو كما زعم بعض النقاد.انها كتابة من الداخل، من داخل المرآة المنصوبة بين طفولة الامكنة والانهار وخراب الحاضر. رويت في هذا الكتاب حكايات التقطتها من شفاه الحكاة وزوايا الكتب وتكايا الزاهدين واسواق الوراقين.لذا فان صورة الكتاب هي صورة البصرة الكلامية والفلسفية والنحوية لقد تكلم كثيرون عن لغة الكتاب الشعرية.اظن ان هذا الاهتمام اللغوي نابع من قرب الكتاب من مدرسة البصرة النحوية.لا بد لكتاب يخرج من مدن مثل البصرة والاسكندرية ان يتمثل القرابة اللغوية للاكاديميات الخيالية القديمة. ولا بد لمن ينتسب إلي مدن مثل طنجة أو قرطاج أو تدمر ان يتحولوا إلي كتاب يتحدثون بالسنة الاشباح والعمالقة والقراصنة والمتشردين في اهاب كتاب امثال الجاحظ والسجستاني والحريري والمعري.ان هذا التقمص اللساني لا يسلبهم الحق في الانتماء إلي اكاديميات الخيال المعاصرة.
û هل ستظل تراهن علي القصة القصيرة دون العمل الروائي؟
ــ إلا إذا كان العمل الروائي معتمدا علي نظام التجزئة والتقطيع والمونتاج التوليفي للنصوص القصيرة، أي علي تغير مواقع السارد في داخل النص الروائي، ولا مركزيته، وتناقض افتراضاته، وعدم اتصال شخصيته.اعتقد ان نماذج صموئيل بيكيت اصلح النماذج الروائية للدلالة علي الانقطاع واللاتصال اللذين يتميز بها العمل الروائي المشابه للقصة القصيرة.يستطيع بيكيت ان يختزل عمله أو يمدده من دون ان يخل بالحدود المفترضة للعمل الروائي أو العمل القصصي القصير.وما دمت اعمل علي تأليف نصوص قصيرة متضامنة في اطار حكاية كبري فلا اهمية لتصنيف عملي علي انه رواية أو مجموعة قصص هكذا يبدو عملي الاخير (حدائق الوجوه) الذي انوي نشره قريبا.
û الحكاية في قصصك مرتكز وجذر، أي انها محطة استراحة أو عودة إلي البساطة بعد تعقيد المعمول الفلسفي في بعض قصصك هل ينتسب كتابك الجديد (حدائق الوجوه) إلي هذا النوع من الحكايات البسيطة؟
ــ الحكاية جذر سردي للعمل القصصي وخلوه منها يضعف التأثير المطلوب في الذات المشاركة في عملية الانصات أو القراءة.انها الضابط المشترك في عملية التلقي.وقد يحتوي النص السردي علي حكاية واحدة أو علة عدة حكايات مركبة.ان كتابي الجديد (حدائق الوجوه) مركب من حكايات ونصوص غير سردية، وبهذا الامتزاج يقدم دليلا علي اسبقية السرد الحكائي علي سواه من انواع السرد مثل السيرة الذاتية ان الكتاب السردي المركب يحتاج إلي تأطيره بحكاية كبري تنظم وحدة النصوص الفرعية المؤطرة، لذا اقتبست من نظام الحدائق العربية والشرقية حكاية كبري لتأطير النصوص الفرعية ومن السير الذاتية لكبار البستانيين (امثال المعري وجبران وطاغور) روابط لهذه النصوص.ان بداهته السردية اتت من ابوابه السبعة المبتكرة وكلها مفتوحة علي المتع السردية المخبوءة في حدائق الممالك الفردوسية.
û بالنسبة لك، هل النص المفتوح أو المهجن خطوة علي الطريق لمحو معالم الجنس الادبي ــ وانا اعني هنا القصة القصيرة ــ حيث افاد من الفنون المجاورة واتخذ الشعرنة اسلوبا؟
ـــ أفادت القصة القصيرة من فنون وحساسيات كثيرة.هناك القصة الشعرية اصلا، أو القصة القصيرة، وربما يرجع هذا الاصل تالي نوع قديم من (البالاد) السردي في حكايات التشرد والغزل والحكمة الاشراقية.وقد سميت مقطوعات الطيب صالح وزكريا ثامر ووليد اخلاصي ومحمود عبد الوهاب قصصا قصيرة جدا وهي اقرب إلي نوع القصة الشعرية، أو البالاد القصصي كما سميت بعض التجارب القصصية مثل نصوص ادوار الخراط ولطفية الدليمي نصوصا مفتوحة.لم اجرب كتابة هذا النوع الادبي، لكنني كتبت قصصا اقتربت فيها كثيرا من الحدود القصوي لشكل القصة القصيرة فقد نظرت إلي هذا الشكل الادبي دائما علي انه اقصر برهان لسرد الحقيقة البسيطة مع ذلك فقد قادتني تجاربي إلي نوع من القصص المركبة خاصة قصص (رؤيا خريف) ما عدا هذه القصص، فاني اميل إلي تأليف كتاب مفتوح يحتوي نصوصا سردية واخري غير سردية اكثر من ميلي لتأليف نص مفتوح بمفرده.فما زلت اؤمن بالشكل التقليدي للقصة القصيرة علي احتواء ابسط الرؤي واعقدها من دون تفريط بحساسية النوع الموحدة الاثر وقدرته علي الامتزاج بانواع السرد المجاورة.
عتبة الكتابة
û هل تكتب وفق اعداد وتخطيط مسبق، أو بعفوية وتلقائية اللحظة التي تأتي كالبرق محملة بالرؤي والخيالات فتجعلك علي عتبة الكتابة؟
ــ لا بد من التفريق بين عمل الكاتب كحرفة تحتاج إلي التخطيط والاعداد والمعايشة اليومية لمجالات السرد والكتابة باعتبارها رؤيا خاطفة أو الهاما يأتي من عالم فوق واقعي وفوق يومي ولحظي.الرؤي والاخيلة بنات الواقع الارضي ايضا بعد تحييزها في مجال سردي في مجال سردي مشخص هو مجال القراء الارضيين هذا الدمج بين نصفي المخيلة، السماوي والارضي هو مصدر الاغتراب السردي الذي يعانيه الكاتب في حرفته اليومية.هو ازاء انتاج نص ذهني كالعامل ازاء الالة التي تستلب قوة عمله المادي ان شراكة منتجين اخرين (القراء والنقاد والناشرين) في هذا العمل تشعره بوجوده المؤقت في المشغل السردي.رسمت صورة اخري للكاتب في قصتي (حكايات يوسف) فهو شبح مؤلف اكثر منه مؤلفا حقيقيا ينتمي إلي عالم المؤلفين (العموميين) لكنني لا ازعم لنفسي دورا اكبر من دور سارد مأجور في سوق الكتب العمومية اني اعمل لقاء اجر ايضا في مؤسسة السرد الخيالي هكذا يقع الخيال صريع الحرفة اليومية وتستلب الرؤي باشكال الكتابة ورأس مال سوقها الرمزي.
û موقفك عما كتب عنك نقديا، هل اضاف النقد إلي ابداعك وخبرتك الفنية شيئا أو دلك علي اتجاه معين وطريق ما؟
ــ النقاد الذين نقدوا نصوصي نوعان.احدهما سايرها ولم يتعدها أو يؤولها بابعد مما فيها فاعاد قراءة نظامها السردي وانطلق من عقدة رموزها لتأويل وقائعها وردها إلي اصولها (ياسين النصير وشجاع العاني وصالح هويدي) النوع الاخر جعلها محورا لتفكيك انظمتها السردية ورد وقائعها إلي سلطة الرموز النشيطة في منظومتها الفكرية والنقدية فوسع من عالمها الافتراضي أو ضيق عليها منافذ التاويل (غالب هلسا، حاتم الصكر، عبد الرحمن طهازي، مالك المطلبي، حسين سرمك) وقد افدت من كلا النمطين النقديين في توسيع طرائقي السردية التي تعتمد علي البداهة والفجاءة والبكارة فلم اكتب نصا مرتين من موقع واحد يقع في مدي نظرة ميدوزا النقدية.
û كيف تري الواقع الثقافي الان في العراق ؟ أي حضور تتوقع لنصوصك الجديدة في سوق الرابحين والخاسرين من انهيار 9 نيسان (ابريل)؟
ــ تجري مناقشات الواقع الثقافي علي حافة الخندق العميق الفاصل بين ثقافة ما قبل وثقافة ما بعد.انها اخطر المناقشات سببتها قطيعة من اعنف القطائع في تاريخ العراق الحديث.ما من احد يدافع عن ثقافة الانهيار، بعد انصرام العلاقة بين المثقف وسلطة الرق المخيفة.ان منطقة ما قبل الانهيار مظلمة ومخربة ومنهوبة، منطقة ذاكرة محروقة.تحرر المثقفون الا ان نصوصهم بقيت ترتجف هلعا من مناخ الحرية الجديد النصوص الجديدة لم تولد بعد ومعركة الثقافة علي ارض الواقع المستلب بالعنف القديم والجديد لم تحسم تماما.المثقفون الذين تحرروا من ثقافة العنف يتهيبون من الكتابة المتحيزة لثقافة الخوف.لم يعد الادباء المهاجرون من جيل الاحتراب السياسي ومن جيل الحروب التوسعية إلي المنطقة الخطرة لثقافة ما بعد 9 نيسان، والادباء المسترقون في الداخل من قبل يتوجسون خيفة من قيود السلطة الجديدة.وفيما تلوح مسربلة، محجبة، في سوق الرابحين والخاسرين، وتحت اغطيتها اللغوية يكمن عنفوان لم يسفر عن نفسه، وتوهج لا يختلط باطياف السوق وخجل مزمن من التصريح والمواجهة.لم يحن وقتها بعد والنهار يؤذن بالموت والجريمة.نصوص لم تربح شيئا أو تخسر شيئا وهناك في ثقب سرطان، في جرف نهر، تقبع نصوصي، تأتيها الاصوات الهادرة من زمن الحرية مثل غرغرة تيار هادئ وعميق تتصل بانفاس الروح الادبي العراقي المتغلغل في صلب القطائع المميتة.تخرج في اوانها وتسفر عن نفسها في اللحظة التي تريد واي نص جديد سيتناغم مع اصداء ذلك الروح الحي.